07/06/2018 - 05:06

طقوس يوميّة... كيف يعمل المبدعون؟ [3/ 3]

طقوس يوميّة... كيف يعمل المبدعون؟ [3/ 3]

 

"طقوس يوميّة: كيف يعمل الفنّانون؟" (Daily Rituass: How Artists Work?) كتاب لماسون كاري، صادر عام 2013 المترجم للعربيّة على يد د.خالد أقلعي، يخوض في تفاصيل صغرى، يوميّة وذات أهمّيّة، في حياة الفنّانين، والعلماء، والمبدعين، والتي لها تأثيرها في إبداعاتهم. كيف تعامل المبدعون مع الزمن وطبيعة الطقوس التي تحكم علاقتهم بالكتابة. نستعرض في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة شيئًا من روتين حياة بعض الكتّاب، والشعراء، والفلاسفة الغربيّين. للجزء الأول اضغطوا هنا. للجزء الثاني اضغطوا هنا.

 

ليف تولستوي: يكتب كي لا يغادر روتينه

"علي أن أكتب كل يوم دون استثناء، ليس فقط من أجل نجاح العمل، ولكن لكي لا أغادر روتيني". هذا ما قاله الراوائي الروسي الشهير تولستوي (1828-1910)، بهذا الخصوص، في أحد تعليقاته القليلة الواردة في يومياته عام 1860، وهو في خضم تأليفه للحرب والسلم.

وإذا كان تولستوي لم يدوّن روتينه في يوميّاته، فإن نجله الأكبر سيرجي، قام بهذه المهمّة، في مرحلة متأخرة، راصدًا نمط الحياة العمليّة التي عاشها والده في ياسنايا بوليانا، المزرعة العائليّة في ضاحية تولا في روسيا.

 

ليف تولتسوي

 

كتب سيرجي يقول: "نتناول العشاء في الخامسة، وغالبًا ما يحضر أبي متأخرًا. يَحضرُ مُحفزًا بانطباعات النهار ويشرع في حكيها لنا. بعد العشاء يقرأ لنا بصوتٍ عالٍ مرات كثيرة. أو يهتم بما نراجعه من دروس. في حوالي العاشرة ليلًا، يجتمع كل سكّان ياسنيا، مرّة أخرى، لشرب الشاي. قبل الذهاب إلى النوم، يعود هو للقراءة، وتكون هناك فرصة للعزف على البيانو. بعد ذلك يلوذ بفراشه في حوالي الساعة الواحدة صباحًا".

 

مارك توين: يُدخّن في كلّ مكان

اعتاد الكاتب الساخر مارك توين (1835-1910) وأسرته، في الفترة الزمنيّة الممتدة ما بين 1870 و 1880، قضاء الأصياف في كواري فارم بنيويورك، وهي مزرعة تقع على بعد 300 كيلو متر من منزله في هارتفورد، كونكتكات.

كانت تلك الأصياف الفترة الأكثر إنتاجًا بالنسبة لمهام توين الأدبيّة، خاصة ابتداءً من 1874، عندما شيّد له أصحاب المِلك مكتبًا صغيرًا خاصًا. في هذا الصيف بالذات، استهل توين كتابة روايته مغامرات توم ساير. كان روتينه بسيطًا: يتوجّه إلى مكتبه صباحًا بعد وجبة فطور غنيّة، وبما أن أفراد أسرته لا يتجاسرون على الاقتراب من المكتب – إذا احتاجوه لأمر ضروري ينفخون في القرن لإعلامه- فإنه ينجح غالبًا في العمل من دون مقاطعات خلال ساعات متعددة. 

 

مارك توين

 

كتب لصديقه في إحدى المرّات: "في الأيّام الحارّة أفتح مكتبي على مصراعه، أثبّت أوراقي على اللوح، وأكتب في وسط الإعصار، مرتديًا الكتّان الخفيف الذي يُصنع منه القمصان". بعد مأدبة العشاء، يقرأ توين محصّلة عمله اليومي على أسماع الأسرة مجتمعة. يروق له الحصل على جمهور، وعروضه الليلة غالبًا ما تلقى الترحيب الكبير. لا يعمل توين يوم الأحد، إنّما يُخصّصه للاستمتاع برفقة زوجته وأبنائه، للقراءة وشحذ الخيال في ركن ظليل  من المزرعة.

وسواء أعمل توين أم لم يعمل، لا يتوقف عن تدخين السيجار. يتذكر الكاتب وليام دين هويل، أحد أصدقائخ المقربين جدًا، بعد زيارة قصيرة لتوين، كيف كان عليه "أن يهوّي الغرفة بأكلمها، لأنه يدخّن في كل مكان من لحظة الفطور إلى ساعة النوم".

 

سيلفيا بلاث: قصائد صنعت لها اسمًا

تُسجل يوميّات الشاعرة الأمريكيّة سيلفيا بلاث (1932-1963)، التي دوّنت وقائع الكاتبة منذ أن كانت في الحادية عشر من عمرها إلى أن وضعت حدًا لحياتها في الثلاثين، أنها خاضت مقاومة حازمة طلبًا لتوقيت مناسب من أجل كتابة مثمرة. مثلًا، في يناير عام 1959: "من الآن فلاحقًا، سوف أرى إن كان هذا ممكنًا: تعديل المنبه على السابعة والنصف والاستيقاظ، متعبة أو غير متعبة. الانتهاء من الفطور بسرعة ومن أشغال البيت (ترتيب الفراش، غسل، إزالة الغبار أو أي شيء آخر) في حدود الثامنة والنصف، الشروع في الكتابة قبيل التاسعة، هذا يبدد اللعنة".

لكن اللعنة لم تتبدد، أبدًا، لوقت طويل، على الرغم من محاولاتها الحازمة اقتطاع جزءًا من الوقت الثمين من أجل الكتابة. فقط قبيل نهاية حياتها، وبعد انفصالها عن زوجها الشاعر تيد هاكس، وعنايتها بطفليها الصغيرين، استطاعت بلاث أن تجد روتينًا قابلًا للتحقق. كانت تتناول مهدّئات من أجل أن تستطيع النوم، وعندما ينتهي مفعولها، في حدود الخامسة صباحًا، كانت تستيقظ وتشرع في الكتابة قبل أن يستيقظ الطفلان.

 

سلفيا بلاث

 

اشتغلت على هذا المنوال خلال شهرين، وفي خريف 1962، استطاعت أن تنتج كل قصائد أرييل، تقريبًا؛ الديوان المنشور بعد وفاتها والذي كرسّها، أخيرًا، كأحد أصوات الشعر الجديد الأكثر سموًا وأصالة.

أخيرًا، شعرت بلاث بأنها مسكونة بإبداعها، ومتحكّمة في الفعل الإبداعي. كتبت لأمها في أكتوبر من عام 1962، أربعة أشهر قبل انتحارها: "أنا كاتبة عبقرية؛ أملك موهبة، أكتب الآن أجمل قصائد حياتي؛ هذه القصائد سوف تصنع لي اسمًا".

 

توماس مان: ممنوع على الأطفال إحداث الضجيج

يستيقظ الأديب الألماني توماس مان (1875-1955)، قبل الثامنة صباحًا، وبعد نهوضه يتناول فنجان قهوة بمعيّة زوجته، يستحم ويرتدي ملابسه. الفطور، مرّة أخرى، بصحبة زوجته يكون في الثامنة والنصف. بعد ذلك، في التاسعة بالضبط، يغلق مان عليه باب مكتبه ويصبح متحررًا من الزيارات والمكالمات الهاتفيّة والأسرة.

كان ممنوعًا على الأطفال، بشكل صارم، إحداث الضجيج بين التاسعة ومنتصف النهار، ساعات كتابة مان الأساسيّة. إنه التوقيت الذي يكون ذهنه فيه منتعشًا، ويضغط فيه على نفسه بقوّة لكي يبلغ بكتابته الذروة.

 

توماس مان

 

"كل فقرة تصبح ممرًا، كل نعت يصبح قرارًا" يقول صاحب "موت في البندقية". كل ما لا يأتي قبل منتصف النهار عليه أن ينتظر إلى يوم آخر، وهكذا يرغم نفسه "على العض على النواجد والتقدّم شيئًا فشيئًا". بعد الانتهاء من عمله الصباحي المضني، يتناول مان وجبة الغداء داخل مكتبه، ويستمتع بسيجاره الأول؛ يدخّن بينما يكتب، لكنه لا يتجاوز سقف اثنتي عشرة سيجارة، وسيجارين اثنين في اليوم الواحد. بعد ذلك يجلس على الكنبة لقراءة اليوميّات، منشورات صحافيّة وكتب حتّى الرابعة مساءً، حيث يرجع إلى فراشه ويغنم قيلولة ساعة من الزمن. (مرّة أخرى على الأطفال ألّا يحدثوا ضجيجًا خلال هذه الساعة المقدّسة).

في الخامسة، يعود مان للاجتماع مع الأسرة من أجل شرب الشاي. بعد ذلك يكتب الرسائل، أو يكتب مراجعات أو مقالات صحافيّة – عمل يمكن أن تقاطعه مكالمات هاتفيّة أو زيارات – ويخرج ليقوم بجولة قبل العشاء في السابعة والنصف أو الثامنة. إذا لم يكن الأمر كذلك، يقضي مان وزوجته الليلة في القراءة أو سماع أسطوانات الغراموفون قبل أن يأوي كل منهما إلى غرفته المستقلّة مع منتصف الليل.

 

مايا أنجلو: إستأجرت غرفة في فندق للكتابة

لم توفّق الشاعرة والكاتبة الأمريكيّة مايا أنجلو (1928-2014)، أبدًا، للكتابة بمنزلها إذ قالت: "حرصت على أن أجعل من مسكني فضاءً جميلًا جدًا، ولم أوفّق للعمل في فضاء جميل وهو أمر يحيّرني". 

تصف أنجلو روتينها اليوميّ في حوار معها عام 1983، على الشكل التالي: "اعتدت الاستيقاظ بحلول الخامسة والنصف، وفي السادسة أكون مستعدة لشرب القهوة بمعيّة زوجي. ينصرف إلى عمله في حدود السادسة والنصف، وكذلك أفعل. استأجرت غرفة في فندق لكي أنجز عملي: حجرة صغيرة ورخيصة بسرير واحد، وفي بعض الأحيان، إذا كنت محظوظة، حوض غسيل. احتفظ في هذه الحجرة بقاموس، إنجيل، أوراق اللّعب وقنينة شراب، وأحرص على الوصول إلى الغرفة في حدود السابعة، وأعمل حتى الثانيّة مساءً".

وتُضيف "إذا سار العمل بشكل سيء، أبقى إلى حدود الثانية عشر والنصف، إذا سار بشكل جيد، أواصل عملي ما دامت الأمور على ما يرام. إنه وضع منعزل ورائع. عندما أعود إلى البيت في الثانية مساءً، أعيد قراءة ما كتبت في ذلك اليوم، ثم أحاول ألّا أعيد التفكير فيه من جديد. أغتسل، وأعد وجبة العشاء، حتى إذا ما عاد زوجي لا أكون مستغرقة في عملي، بشكل كلي. حياتنا طبيعيّة تمامًا. نشرب نخب حبنا، ونتناول العشاء معًا. قد أتلو على مسامعه، بعد العشاء، بعضًا مما كتبت. وهو لا يعلّق على شيء أبدًا".

 

مايا أنجلو

 

بهذه الطريقة نجحت أنجلو، ليس في كتابة سلسلة سيرتها الذاتيّة اللاذعة، وحسب، ولكن أيضًا في نظم قصائدها المتعدّدة، مسرحيّاتها، محاضراتها، مقالاتها، وسيناريوهاتها الموجّهة للانتاج التلفزيوني. أحيانًا يُولّد فيها ضغط العمل انفعالات فيزيائيّة غريبة: ظهرها لا يستجيب، ركبتاها تلتهبان، وذات يوم انتفخ جفنيها حتى انغلقا. ومع ذلك، تجدها مستمتعة باستثمار أقصى طاقتها.

 

وليام فولكنر: ثلاثة آلاف كلمة كل يوم

كان وليام فولكنر (1897-1962) يكتب بشكل جيد خلال ساعات الصباح، وإن استطاع طوال حياته التكيّف مع مختلف البرامج الزمنيّة بحسب الضرورة. يكتب "بينما كانت تحتضر" مساءً، قبل أن يستلم دوريته الليليّة كمراقب لمحطّة الكهرباء في الجامعة. لقد وجد التوقيت الليلي أكثر مرونة؛ ينام ساعات قليلة في الصباح، ويكتب خلال ساعات المساء. في طريقه إلى العمل يزور والدته، التي تعدّ له فنجان القهوة، ويواجه بعض الرتابة خلال دوريّة العمل، ولكنها ليست بذلك الثقل.

كان هذا عام 1929. وفي عام 1930 اقتنى آل فولكنر مزرعة كبيرة، فاستقال صاحب "الصخب والعنف" من عمله كي يتمكن من إصلاح بيت هذه المزرعة وأراضيها. سمح له هذا الوضع الجديد بالاستيقاظ في وقتٍ مبكر، يفطر، ويجلس على مكتبه الصباح كله. (يحب العمل في المكتبة، وبما أنها كانت دون قفل، اضّطر إلى تفكيك مقبض الباب ليتمكن من الاحتفاظ به أثناء عمله داخلها)!. بعد وجبة منتصف النهار، يواصل فولكنر إصلاحاته المنزليّة، أو يقوم بجولة طويلة، أو يمتطي حصانه. في الليل يجتمع وزوجته داخل سيارته البورش ليتسامرا.

 

وليام فولكنر

 

بالنظر إلى الاعتقاد الشعبي في أن فولكنر كان يحتاج إلى الشراب كمحفّز للكتابة، لا شيء يُثبت ذلك. وإذا كان بعض أصدقائه أكدوا هذه الحقيقة، فإن ابنته نفت ذلك مرارًا وتكرارًا، وأكدت بأن والدها يكتب دائمًا في حالة صحوٍ تام. وفي كل الحالات لم يكن إلهام فولكنر بحاجة إلى محفّز من أي نوع. خلال أعوامه الاكثر خصوبة؛ أي منذ نهاية العشرينات إلى بداية الأربعينات، كان فولكنر يشتغل بإيقاع مدهش، غالبًا ما ينتج حوالي ثلاثة آلاف كلمة في اليوم، وفي مناسبات أخرى الضعف.

كتب ذات يوم لوالدته يخبرها بأنه استطاع أن يُحطّم الرقم القياسي الشخصي بأن يكتب في يومٍ واحد عشرة آلاف كلمة قائلًا: "أكتب عندما تحفّزني روحي، وروحي تحفّزني كل يوم".

 

 

التعليقات